فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ أبو السمال قال: ابن عطية وقوم من أهل السنة برفع {كل} وهو على الابتداء، وجملة {خلقناه} هو الخبر، و{بِقَدَرٍ} متعلق به كما في القراءة المتواترة، فتدل الآية أيضًا على أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة، ويجعل الخبر {بِقَدَرٍ} لاختلاف القراءتين معنى حينئذ، والأصل توافق القراآت، وقال الرضى: لا يتفاوت المعنى لأن مراده تعالى بكل شيء كل مخلوق سواء نصب {كُلٌّ} أو رفعته وسواء جعلت {خلقناه} صفة مع الرفع، أو خبرًا عنه، وذلك إن خلقنا كل شيء بقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء يقع على كل منها، وحينئذ نقول: إن معنى {كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} على أن خلقناه هو الخبر {كُلٌّ} مخلوق مخلوق {بِقَدَرٍ} وعلى أن {خلقناه} صفة {كُلّ شَىْء} مخلوق كائن {بِقَدَرٍ} والمعنيان واحد إذ لفظ {كُلٌّ} في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان {خلقناه} صفة له أو خبرًا، وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول: إذا جعلنا {خلقناه} صفة كان المعنى {كُلٌّ} مخلوق متصف بأنه مخلوقنا كائن بقدر، وعلى هذا لا يمتنع نظرًا إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك الصفة فلا تندرج تحت الحكم، وأماإذا جعلناه خبرًا أو نصبنا {كُلّ شَىْء} فلا مجال لهذا الاحتمال نظرًا إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام فقد اختلف المعنيان قطعًا ولا يجديه نفعًا أن كل مخلوق متصف بتلك الصفة في الواقع لأنه إنما يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذي لا حتمال فيه، وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكون النصب نصًا في المقصود اتفقت القراآت المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجح على الرفع الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه.
{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} أي ما شأننا إلا فعلة واحدة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الإيجاد بلا معالجة ومشقة، أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة، وهي قوله تعالى: {كُنَّ} فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور، فإذا أراد عز وجل شيئًا قال له: {كُنْ فَيَكُونُ} {كَلَمْحٍ بالبصر} أي في السير والسرعة، وقيل: هذا في قيام الساعة فهو كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} [النحل: 77].
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم} أي أشباههكم في الكفر من الأمم السالفة، وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة، والحال قرينة على ذلك، وقيل: هو باق على حقيقته أي أتباعكم {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متعظ بذلك.
{وَكُلُّ شيء فَعَلُوهُ} من الكفر والمعاصي، والضمير المرفوع للأشياع كما روى عن ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد، وجملة {فَعَلُوهُ} صفة {شَىْء} والرابط ضمير النصب، وقوله تعالى: {فِى الزبر} متعلق بكون خاص خبر المبتدا أي كل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه، وتفسير {الزبر}.
اللوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء، ولم يختلف القراء في رفع {كُلٌّ} وليست الآية من باب الاشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الاسم كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى هاهنا حينئذ فعلوا {فِى الزبر} كل شيء إن علقنا الجار بفعلوا وهم لم يفعلوا شيئًا من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم السلام كتبوها عليهم في الكتب، أو فعلوا كل شيء مكتوب {فِى الزبر} إن جعلنا الجار نعتًا لكل شيء، وهذا وإن كان معنى مستقيمًا إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفًا.
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من الأعمال كما روى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وقيل: منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة {مُّسْتَطَرٌ} مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهو من السطر بمعنى الكتب، ويقال: سطرت واستطرت بمعنى، وقرأ الأعمش وعمران وعصمة عن أبي بكر عن عاصم {مُّسْتَطَرٌ} بتشديد الراء، قال (صاحب اللوامع): يجوز أن يكو من طر النبات والشارب إذا ظهر، والمعنى كل {صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الاستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول جعفرّ ويفعلّ بالتشديد وقفًا أي ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل، ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى: {إِنَّ المجرمين} [القمر: 47] إلخ مما يستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانه ما لهم من حسن الحال بطريق الاجمال فقال عز قائلًا: {إِنَّ المتقين} أي من الكفر والمعاصي، وقيل: من الكفر.
{فِي جنات} عظيمة الشأن {وَنَهَرٍ} أي أنهار كذلك، والإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل، وعن ابن عباس تفسيره بالسعة، وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة كما في (الدر المنثور) أو قيس بن الخطيب كما في (البحر) يصف طعنة:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ** يرى قائم من دونها ما وراءها

أي أوسعت فتقها، والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل: ما يعمهما.
وأخرج الحكيم والترمذي في (نوادر الأصول) عن محمد بن كعب قال: {وَنَهَرٍ} أي في نور وضياء وهو على الاستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من منبعه، وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم في الجنات، وقرأ الأعرج، ومجاهد، وحميد، وأبو السمال والفياض بن غزوان {وَنَهَرٍ} بسكون الهاء، وهو بمعنى {نهر} مفتوحها، وقرأ الأعمش، وأبو نهيك، وأبو مجلز واليمانى {جنات وَنَهَرٍ} بضم النون والهاء، وهو جمع نهر المفتوح أو الساكن كأسد وأسد، ورهن ورهن وقيل: جمع نهار، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم كما حكى فيما مر، وقيل: قرئ بضم النون وسكون الهاء.
{فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} في مكان مرضي على أن الصدق مجاز مرسل في لازمه أو استعارة، وقيل: المراد صدق المبشر به وهو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنه ناله من ماله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم السلام، فالإضافة لأدنى ملابسة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز وجل لهم النظر إلى وجهه الكريم، وإفراد المقعد على إرادة الجنس. وقرأ عثمان البتي {في مقاعد} على الجمع وهي توضح أن المراد بالمقعد المقاعد.
{عِندَ مَلِيكٍ} أي ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الإشباع {مُّقْتَدِرٍ} قادر عظيم القدرة، والظرف في موضع الحال من الضمير المستقر في الجار والمجرور، أو خبر بعد خبر، أو صفة لمقعد صدق، أو بدل منه، والعندية للقرب الرتبي وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر مليكًا، ومقتدرًا للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عز وجل لا تدري الإفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عين رأيت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكل دونه الأذهان.
وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إِنَّ المتقين} [القمر: 54] إلخ قال: إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرىء منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بالأعمال فلا تقرّ أعينهم قط كما تقرّ بذلك ولم يسمعوا شيئًا أعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل، ولهذين الاسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء على ما في بعض الآثار.
أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا على ليل طويل وليس فيه أحد غيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال: أيها الممتلىء قلبه فرقًا لا تفرق أو لا تفزع وقل اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لك قال: فما سألت الله تعالى شيئًا إلا استجاب لي وأنا أقول: اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن علي وانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)}.
استئناف وقع تذييلًا لما قبله من الوعيد والإِنذار والاعتبار بما حلّ بالمكذبين، وهو أيضًا توطئة لقوله: {وما أمرنا إلا واحدة} [القمر: 50] إلخ.
والمعنى: إنا خلقنا وفعلنا كلّ ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلالتها وسلّطنَاه على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإِصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة.
واقترانُ الخبر بحرف (إنّ) يقال فيه ما قلناه في قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر} [القمر: 47].
والخَلْق أصله: إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات، ويطلق مجازًا على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالى: {وتخلقون إفكًا} [العنكبوت: 17].
فإطلاقه في قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
و {شيء} معناه موجود من الجواهر والأعراض، أي خلقنا كل الموجودات جواهرها وأعراضها بقدَر.
والقدَر: بتحريك الدال مرادف القدْر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها.
والمراد: أن خلْق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد (8) {وكل شيء عنده بمقدار} ومما يشمله عموم كل شيء خلق جهنم للعذاب.
وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم} [الحجر: 85، 86] وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} [الدخان: 38 40] فترى هذه الآيات وأشباهها تُعقّب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء.
فهذا وجه تعقيب آيات الإِنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} بعد قوله: {أكفاركم خير من أولائكم} [القمر: 43] وسيقول: {ولقد أهلكنا أشياعكم} [القمر: 51].
فالباء في {بقدر} للملابسة، والمجرور ظرف مستقر، فهو في حكم المفعول الثاني لفعل {خلقناه} لأنه مقصود بذاته، إذ ليس المقصود الإِعلام بأن كل شيء مخلوق لله، فإن ذلك لا يحتاج إلى الإِعلام به بَلْه تأكيده بل المقصود إظهار معنى العلم والحكمة في الجزاء كما في قوله تعالى في سورة الرعد (8) {وكل شيء عنده بمقدار} ومما يستلزمه معنى القَدر أن كل شيء مخلوققٍ هو جارٍ على وفق علم الله وإرادته لأنه خالق أصول الأشياء وجاعلُ القوى فيها لتنبعث عنها آثارها ومتولَّداتُها، فهو عالم بذلك ومريد لوقوعه.
وهذا قد سمي بالقدَر في اصطلاح الشريعة كما جاء في حديث جبريل الصحيح في ذكر ما يقع به الإِيمان: وتؤمن بالقدر خيره وشره.
وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله في القدَر فنزلت: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 48، 49].